سورة الأعراف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}
قوله تعالى: {قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا} أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء. {وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا} أي والآن أعيد علينا ذلك، يعنون الوعيد الذي كان من فرعون.
وقيل: الأذى من قبل تسخيرهم لبنى إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر.
وقال الحسن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو أخذ الجزية. {قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} {عَسى} من الله واجب، جدد لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، كما تقدم. وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم، فحقق الله الوعيد بأن غرق فرعون وقومه وأنجاهم. {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} تقدم نظائره. أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء، لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم.


{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} يعني الجدوب. وهذا معروف في اللغة، يقال: أصابتهم سنة، أي جدب. وتقديره جدب سنة.
وفي الحديث: «اللهم أجعلها عليهم سنين كسنى يوسف». ومن العرب من يعرب النون في السنين، وأنشد الفراء:
أرى مر السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال
قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون، ولكن أنشد في هذا مالا يجوز غيره، وهو قوله:
وقد جاوزت رأس الأربعين***
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا يا هذا، مصروفا. قال: وبنو تميم لا يصرفون ويقولون: مضت له سنين يا هذا. وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه أسنت القوم أي أجدبوا. قال عبد الله بن الزبعري:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي ليتعظوا وترق قلوبهم.


{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)}
فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} أي الخصب والسعة. {قالُوا لَنا هذِهِ} أي أعطيناها باستحقاق. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي قحط ومرض وهي المسألة:- الثانية: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى} أي يتشاءموا به. نظيره {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}. والأصل {يتطيروا} أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة: {تطيروا} على أنه فعل ماض. والأصل في هذا من الطيرة وزجر الطير، ثم كثر استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم: تطير. وكانت العرب تتيمن بالسانح: وهو الذي يأتي من ناحية اليمين. وتتشاءم بالبارح: وهو الذي يأتي من ناحية الشمال. وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب، ويتأولونه البين. وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا برحت: من لي بالسانح بعد البارح. إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير، فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه. وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم بالغداة، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة قربته، ومتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع جمله، وبالدابة يحط عنها ثقلها. فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان، فقال عليه السلام: «أقروا الطير على مكناتها». وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا بقول: «أقروا الطير على مكناتها» هكذا في الحديث. وأهل العربية يقولون: وكناتها قال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ***
والوكنة: اسم لكل وكر وعش. والوكن: موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر. ويقال: وكن الطائر يكن وكونا إذا حضن بيضه. وكان أيضا من العرب من لا يرى التطير شيئا، ويمدحون من كذب به. قال المرقش:
ولقد غدوت وكنت لا *** أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا *** من والأيامن كالأشائم
وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. قال علماؤنا: وأما أقوال الطير فلا تعلق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير، إلا ما كان الله تعال خص به سليمان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، فالتحق التطير بجملة الباطل. والله أعلم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منا من تحلم أو تكهن أو رده عن سفره تطير».
وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الطيرة شرك- ثلاثا- وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل».
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك». قيل: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: «أن يقول أحدهم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته».
وفي خبر آخر: «إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك». ثم يذهب متوكلا على الله، فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يهمه. وقد تقدم في المائدة الفرق بين الفأل والطيرة. {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقرأ الحسن {طيرهم} جمع طائر. أي ما قدر لهم وعليهم. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند موسى وقومه.

22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29